Tuesday, 5 February 2013

الرجل الصيني

كتبها حسين إسماعيل ، في 28 أغسطس 2011 الساعة: 09:31 ص


الرجل الصيني
رؤية يكتبها: حسين إسماعيل
سألتني صديقة مهتمة بالشؤون الصينية: "لماذا لا تكتب عن الرجل الصيني، وقد كُتب عن المرأة الصينية الكثير والكثير؟ وقد رحت أقلب في أوراقي القديمة والجديدة وفي المصادر المتاحة لي فلم أعثر على شيء كُتب عن الرجل الصيني صراحة، ولا أقصد هنا الكتابة عن الشخصية الصينية بشكل عام، مقابل فيض من الكتابات الحديثة عن المرأة الصينية. بدا الأمر مُحيراً، ولكن بقليل التأمل والتدقيق تكتشف أنه في الحقيقة ليس كذلك، وأن الرجل الصيني هو تاريخ الصين كله، فكرها وفلسفتها وثقافتها، فكيف يقال إنه لا توجد كتابات عن الرجل الصيني؟
في مجتمع ظل يوصف حتى وقت قريب جدا بأنه مجتمع ذكوري، كانت المكانة الرئيسية في المجتمع الصيني قديما للرجل. حسب سجلات التاريخ الصيني، كان "الرجل" محور حياة الصين الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، مثلما الحال في كافة الحضارات والثقافات القديمة. بل إن خالق الكون، في ميثولجيا الخلق الصينية، "رجل" اسمه بان قو. ويتحدث الفكر الكونفوشي الصيني عن صفات النبل والحكمة والاستقامة، الخ، بصيغة "المذكر". يقول كونفوشيوس: "ينال الرجل النبيل من المتاعب الكثير ليكتشف ما هي الاستقامة، بقدر ما ينال الرجل الوضيع ليكتشف الأرباح التي يمكن أن يحققها." وقد قدم كونفوشويس وصفا شاملا للرجل النبيل، فقال: "الرجل النبيل يجعل تهذيب الشخصية أساسا وينظم سلوكه بما يتفق مع آداب التعامل، يقيم صداقات بتواضع، ويبني شخصيته بالأمانة والصدق." الرجل النبيل، بالنسبة لكونفوشيوس، رجل مثالي، وبعبارة أخرى "رجل كامل". واعتقد كونفوشيوس أن الرجل طالما يفكر فيما إذا كان ينبغي أن يأخذ شيئا أم لا عندما يرى ربحا، وما إذا كان يجرؤ على التضحية بحياته في وقت الخطر، وعلى الرغم من قضاء أيام في صعوبات ومشقات مزمنة، لا ينسى عهده الذي قطعه على نفسه في الأيام العادية. هنا يمكن القول إنه رجل مثالي. يكرر كونفوشيوس الحديث عن النبل والمثالية رابطا إياهما بالرجل. وقد وضع معايير للشكل الأسمى للرجولة والذي يتجسد لديه في "الرجل النبيل"، فأوضح أن الخيط الفاصل بين الرجل النبيل والرجل الوضيع يكمن في ما إذا كان الرجل يتخذ الاستقامة هدفا لحياته، أو يتخذ الربح هدفا لحياته. ولهذا، فعلى الرغم من أن الرجل النبيل يدافع أيضا عن الشجاعة، ينبغي أن يجعل الاستقامة معياره الأسمى، وإلا فإنه لن يختلف عن اللص. وقال كونفوشيوس إن شجاعة الرجل النبيل تظهر في ما ينبغي أن يفعل من حيث الأخلاق والعدل، وهو ما يساعد على استقرار النظام الاجتماعي. أما شجاعة الرجل الوضيع فتكون مدفوعة بالربح، ومن ثم فإنه قد يصبح لصا وخطرا على استتباب النظام الاجتماعي. ولإبراز المسؤولية التي ينبغي أن يتحملها الرجل النبيل، قال كونفوشيوس: "الرجل النبيل الذي ينبري ليكون مسؤولا رسميا يكون هدفه كاملا هو نشر الاستقامة." وقال منشيوس: "قد يكون ممكنا أن يكون لدى الرجل غير الرحيم إمارة، ولكن من المستحيل أن ينال اعتراف العالم."
لم يختلف الأمر بالنسبة لمفكر صيني آخر هو شيون تسي، الذي تحدث عن "الرجل" وليس عن الشخصية الصينية، فحدد الفرق بين الرجل النبيل والرجل العادي بالقول: "الرجل النبيل يضع الاستقامة في المقدمة، بينما يولي الرجل العادي الربح الأولوية. فقط عندما يتيقن الرجل من أنه حيثما توجد الاستقامة، لا يميل الرجل إلى انتزاع السلطة ويفكر في الربح يمكنه أن يكون رجلا نبيلا حقيقيا."
أما مؤسس الطاوية، لاو تسي، فقد قال: "بين الشهرة والحياة، أيهما أقرب إلى الرجل؟" وقال أيضا: "الأسلحة أشياء مشؤومة، لا ينبغي أن يعتمد عليها الرجل السامي. لا ينبغي أن ينظر الرجل إلى الأسلحة على أنها أشياء جميلة. إن اعتبارها أشياء جميلة يعني أن يسعد بها الرجل، والسعادة بها تعني السعادة بقتل الرجال. إن الذي يسعده قتل الرجال لا ينال أبدا ما يسعى إليه من الذين يعيشون تحت السماء."
كانت المرأة استثناء في تاريخ الصين الطويل، كان الرجل هو "القاعدة"، فقد كان الإمبراطور وكبير الوزراء والوزير والمفكر والفيلسوف رجالا. كان الاعتقاد جازما بتفوق الرجل على المرأة. كانت هناك قواعد سلوكية وأخلاقيات تضمن السلطة المطلقة للرجل، في الحياة العامة وفي الحياة الخاصة، فالقيادة تكون للرجل؛ الحاكم يقود الرعية، الأب يقود الأبناء، والزوج يقود الزوجة. كان من حق الرجل أن يطلق زوجته بينما لا يحق للزوجة ذلك، بل لم يكن من حقها أن تتزوج إذا مات زوجها.
ولكن الرجل الصيني، كما عرفته وصادقته وتعاملت معه عن قرب، إنسان عادي جدا، وقد كتبت عن ذلك من قبل فقلت إنه إنسان عادي لا يحاول القفز إلى ما يدور في ذهنك وإخراجه كلاما على لسانه، عادي يسأل عن تفاصيل تدهشك. وأذكر أنني ذات مرة ذهبت إلى المقر القديم لوزارة الثقافة الصينية لأداء بعض الأعمال، وعلى البوابة الرئيسية للمبنى شرع الحارس يسجل بياناتي قبل الدخول، وفي الاستمارة التي أمامه يسجل بها الاسم والعنوان وبيانات أخرى موجودة بهويتي الشخصية التي أعطيته إياها، حتى وصل خانة خاصة بالنوع، وهو بيان غير مذكور في بطاقة هويتي، وعندما بلغها الرجل رفع رأسه وسألني: ذكر أم أنثى؟ وعلى الرغم من طرافة الموقف فإنه يؤكد الطبيعة العادية للرجل الصيني النابعة من عوامل فكرية وتاريخية وجغرافية وبيئية. فكريا، الرجل الصيني يحمل في جيناته حضارة عمرها ينيف على الخمسة آلاف سنة، والرجل الصيني في القرن الحادي والعشرين تمتد جذوره دون شائبة تشوبها إلى أصولها الأولى، فالصينيون من أكثر الشعوب نقاء، بمعنى أنهم لم يختلطوا مع أعراق أخرى. والصينيون حتى يومنا هذا متأثرون بالفكر الكونفوشي، وهو في تقديري فكر ذكوري. تاريخيا، الصينيون عاشوا حتى سنة 1911 في ظل حكم أسر إقطاعية وكان الإمبراطور (الرجل) في الصين بمثابة إله فهو ابن السماء. جغرافيا، الصين هي "وسط" العالم. هذه الوسطية أعطت الرجل الصيني الاعتدال والتسامح، وهو تسامح يعبر عن نفسه في سلوك الرجل العادي في الشارع والبائع والزوج والمدير والرئيس. وبيئيا، الصين فيها كل الظواهر الطبيعية، تضاريس وطبوغرافيا ومناخ، فالصين ليست شديدة البرودة طوال السنة وليست شديدة الحرارة أيضا والصين أرض واسعة تسافر من دفء وحرارة جنوبها في ذات اليوم إلى برودة شمالها، وهكذا فإن الرجل الصيني تتقلب عليه الفصول الأربعة واضحة مميزة ولهذا فإنه ليس حاد المزاج كإنسان البلاد الحارة وليس مثل أبناء البلاد الباردة، إنه مزيج بيئي أفرز إنسانا عاديا للغاية. تلك العادية التي كما أسلفت من أسرار تفوقه. وربما لهذا السبب لم تر صديقتي العربية الرجل الصيني غيورا مفرطا بالصورة التي تعرفها في مجتمعها، ولكنه أيضا ليس جامدا مثل أبناء البلاد الشديدة البرودة. ولم تر منه قسوة وتسلط الرجل كما ترسمها الروايات العربية (ثلاثية نجيب محفوظ نموذجا)، فالرجل الصيني ليس من أنصار نظرية "إن لم تكن معي فأنت ضدي" و"الدماء الساخنة التي تجري في العروق"، فمن الممكن بل والمقبول للرجل الصيني أن تكون صديقه وصديق منافسه في نفس الوقت، وأن يكون هو صديقك وصديق منافسك في نفس الوقت. الرجل الصيني لا يقاطع من يختلف معه بل يبقى على تواصل معه.
أما هيئة وشكل الرجل الصيني، فقد كان شائعا عن الصينيين بشكل عام أنهم قصار القامة، وهذا كلام وإن كان يصدق على الرجال من جنوبي وشرقي الصين فإنه لا ينطبق على الرجال من أهل الشمال. وبرغم هذه الصورة النمطية عن مقاييس الرجل الصيني فإن مدينة شانغهاي، بجنوب شرقي الصيني أنجبت العملاق ياو مينغ، لاعب كرة السلة الذي يبلغ طوله مترين وتسعة وعشرين سنتيمترا، والذي أعلن اعتزاله اللعب في شهر يوليو هذه السنة. ومن أشهر قصار القامة في الصين، الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ، مهندس إصلاح الصين وانفتاحها على الخارج، الرجل صاحب المقولة الشهيرة .. إنني لا أتوتر أبدا حتى وإن سقطت السماء على الأرض، لأن أصحاب القامات الطويلة سيحملونها عني.
ومن الملاحظ بشكل عام أن الرجل الصيني حاليا أكثر طولا وأعظم بنية ولكن لا يتمتع بنفس الهيمنة والتسلط والسطوة التي كان عليه أسلافه، وأن عددا متزايدا من رجال الصين، مع ارتفاع مستوى المعيشة، أصبحوا ينافسون المرأة في عالم التجميل أيضا، فحسب إحصاء أجرته الجمعية الصينية لصناعة العطور ومستحضرات التجميل والمكياج، بلغت مبيعات مستحضرات التجميل للرجال بالصين في سنة 2006 خمسين مليون دولار أمريكي، وقد وصل الرقم في سنة 2010 إلى خمسمائة مليون دولار أمريكي.
ومثلما تغير كل شيء في الصين، تغير الرجل الصيني في هيئته ومظهره وفكره وسلوكه. صار الرجل الصيني مشاركا لزوجته في أعمال المنزل وبات يقبل أن تسافر زوجته بعيدا عن بيتها لأداء عملها وأن يكون لها مالها الخاص وأعمالها التجارية المستقلة. باختصار، تخلى الرجل الصيني عن جانب كبير من سطوته وهيمنته لصالح المرأة، ولكن معايير الرجل "النبيل" لم تتغير كثيرا في المجتمع الصيني وفقا للثقافة التقليدية. وبينما كانت معظم حالات الزواج الصيني- الأجنبي تتكون من رجل أجنبي وامرأة صينية، صار هناك عدد متزايد من الرجال الصينيين يتزوجون من نساء أجنبيات، بل ومن القارة الأفريقية السمراء، وهذا تحول مهم في رؤية الرجل الصيني للأجناس البشرية ومؤشر على تحول هام في معايير جمال المرأة عند الرجل الصيني. صحيح أن عدد الرجال الصينيين المنخرطين في هذه الزيجات قليل جدا، ولكن حدوث ذلك يعني بداية العولمة للحياة الخاصة للرجل الصيني.
كلمة أخيرة أقولها عن الرجل الصيني، كما عرفته زميلا وصديقا وشريكا، فقد وجدته لا يختلف عن الرجل من أي جنس أو لون، ولكنني وجدت في معظم رجال الصين سماحة ورقة وطيب معشر وحسن معاملة. وإذا كانت هناك استثناءات فإنها تؤكد القاعدة، كما يقال.

No comments:

Post a Comment