Tuesday, 5 February 2013

جذور الثقافة والقيم الصينية

كتبها حسين إسماعيل ، في 1 يوليو 2012 الساعة: 11:57 ص

 
جذور الثقافة والقيم الصينية
حسين إسماعيل
أصدرت "مؤسسة الفكر العربي" في شهر إبريل هذه السنة كتاب "جذور الثقافة والقيم الصينية" الذي شرفت بترجمته إلى اللغة العربية، وقام بمراجعته المترجم الكبير الصديق دو تشونغ (مخلص). الكتاب من تأليف البروفيسور وو قن يو، أستاذ الفلسفة في جامعة ووهان، وعنوانه الأصلي هو "السلام.. جذور التقاليد الثقافية والقيم للشعب الصيني"، ويتكون من مقدمة وأربعة فصول، هي: الحكمة القديمة الهادفة إلى التناغم، رحلات تشنغ خه البحرية وسياسة الصين الخارجية السلمية، طريق الحرير والأخلاقيات الاقتصادية لتنمية الصين السلمية، وأيديولوجية الطب الصيني التقليدي والأخلاقيات البيئية للتنمية السلمية للصين، ثم خاتمة بعنوان: السور العظيم، نموذج لفكرة استراتيجية الدفاع وشاهد على التنمية السلمية للصين. في هذه الخاتمة، يحلل وو قن يو أيديولوجية السور العظيم كاستراتيجية دفاعية، ويعرض لفكرة "تقدير التناغم" و"التناغم مع الاختلاف" و"سياسة السلام الخارجية المستقلة"، وأيديولوجية "التناغم العظيم" ورؤية الشعب الصيني للعالَم المحب للسلام، ثم تطبيق السياسات الأخلاقية وإقامة نظام سياسي دولي ينعم بالسلام.
في مقدمة الكتاب، يطرح الكاتب السؤال التالي: هل ستلتزم الصين بنهج التنمية السلمية؟ كيف يمكن لنا أن نفهم نهج التنمية السلمية الذي طرحته الحكومة الصينية؟ ويقول: "للإجابة على هذين السؤالين، من الضروري أن نفهم التقاليد الثقافية والقيم للأمة الصينية. إن الصين لا تسير على نهج التنمية السلمية لمجرد أنها مازالت دولة نامية أمامها مشكلات كثيرة صعبة تحتاج إلى الحل. إن الأمر قد يستغرق جيلين أو ثلاثة أجيال من الصين لتلحق بالدول المتوسطة التقدم. وعندما تبلغ ذلك، ستظل الصين دولة تقول وتفعل كثيراً مما تقوله وتفعله الآن. ليس ثمة ما يدعو إلى قلق الذين يتساءلون: "هل ستقول الصين وتفعل نفس الشيء عندما تصبح قوة كبيرة فعلاً؟"
ويؤكد وو قن يو على أن الصين دولة تولي أهمية للتاريخ وللدروس التاريخية، ويقول: "في دراسة نهج التنمية السلمية للصين، لا ينبغي أن نهمل تأثير التقاليد الثقافية للصين وتجربتها التاريخية والسياسية على سلوكها السياسي الحالي والمستقبلي. إن مفهوم التناغم الذي تشكل عبر تاريخ الصين والتجارب السياسية للأسرات الإمبراطورية السابقة في المعالجة السلمية للعلاقات مع أبناء القوميات الأخرى على الحدود، له تأثير عميق على السياسة الصينية، في الحاضر والمستقبل. بالإضافة إلى التجارب السياسية للشعب الصيني نفسه، مازالت الدروس البائسة للحربين العالميتين في العصر الحديث حية في أذهان الصينيين. إن الصين، التي تُعد ضمن الدول المنتصرة في هاتين الحربين، لم تستفد شيئاً منهما."
ويقول المؤلف إن الصين دولة تولي أهمية كبيرة للتوزيع العادل للثروة وللاستقرار الاجتماعي، عند التعاطي مع العلاقات بين المجموعات العرقية ومع الدول الأجنبية. وتولي الصين أهمية خاصة للسبل السلمية عند التصدي للتفاعلات المعقدة بين دول مختلفة. وقد قال كونفوشيوس ذات مرة: "من الضروري أن يكون قلقك على نقص العدالة والاضطراب أكثر من قلقك على الفقر". هذا المفهوم الثقافي والموقف من الحياة له تأثيره الكبير على موقف الصينيين من الثروة. يميل الصينيون إلى السلام والطمأنينة عندما يكون الاختيار بين التنافس على الثروة والحيازة العادلة لها، والحياة المطمئنة. ويستشهد الكتاب بمواقف وأحداث من تاريخ الصين تؤكد نهج التنمية السلمية الذي تتبعه الصين، فيقول: "فضّْل قو دان فو، مؤسس أسرة تشو الإمبراطورية، أن يتنازل عن بعض من إقليمه السياسي على الدخول في صدام مع أبناء دي، وهم أقلية قومية على الحدود الشمالية. والسبب في ذلك، وفقا للمؤلف هو أن "ما طلبه أبناء دي لم يكن شيئاً غير الأرض والناس. كان من الأفضل أن نسلّْم لهم الأرض والناس وندعهم يتولون ذلك، وليس أن نشن حرباً من أجل الأرض والناس. إن الأمر لن يختلف بالنسبة للناس، بصرف النظر عن الذي يحكمهم. لهذا نقل (قو) أبناء قبيلة تشو إلى سفح جبل تشي، من أجل استصلاح أرض جديدة. أما الناس، وقد شعروا بالامتنان لصدقه ورحمته ومروءته، فقد أرادوا أن يتبعوه إلى جبل تشي. ولهذا، صارت إمبراطورية تشو أكثر قوة شيئاً فشيئاً. قد تكون هذه قصة أسطورية حول الحكم السياسي الرحيم لأسرة تشو، ولكنها تُظْهر أن الصين سعت إلى الحكم الرحيم بعد نهاية أسرة تشو."
ويقول المؤلف إن مفهوم تنمية الصين السلمية يعبر في الواقع عن الفكرة الثقافية بأن الصينيين سوف يسيرون على نهج التحديث ذي الخصائص الصينية. والصين حاليا، وهي على طريق التحديث، تتعلم من دروس وتجارب التحديث في الدول الغربية خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين. لقد اختارت الصين التنمية السلمية، وهو اختيار حكيم. السبب وراء اختيار الصينيين وثيق الصلة بالحكمة السياسية الداعية إلى "تقديس السلام" و"التناغم" في الثقافة الصينية التقليدية. ومن ثم فإن استكشاف المزيد حول التراث الفكري الداعي إلى "التناغم" في الثقافة الصينية قد يعمق الفهم للجذور الثقافية لمفهوم "التنمية السلمية للصين". إن هذه التنمية السلمية هي الاستراتيجية السياسية الملائمة والاستراتيجية الخارجية للساسة الصينيين في العصر الحديث.
ويعترف وو قن يو بأن صعود دولة كبيرة يؤدي حتماً إلى تغيرات في الوضع العالمي ويؤثر في توزيع موارد العالم. ويقول إن السؤال هو ما إذا كانت السبل السلمية هي التي تُستخدم لتحقيق إعادة التوزيع من خلال التفاعلات الاقتصادية والثقافية ومن ثم الارتقاء بمستوى معيشة شعوب العالم، أم أن الحروب هي التي تستخدم لنهب الموارد، مما يؤدي إلى عواقب كارثية على شعوب العالم. هذان طريقان مختلفان تماماً يُستخدمان لتنمية الدول الكبرى. في المسيرة الطويلة لنهوض وتنمية الأمة الصينية، تراكمت للصين حكمة وافرة حول التنمية السلمية. في العديد من المواقف، كان الساسة الصينيون عبر التاريخ أكثر ميلاً إلى استخدام "الزواج من أجل السلام"، في العلاقة مع القوميات على الحدود.
يزخر الكتاب بالقصص التاريخية التي تدعم وجهة نظر الكاتب بأن الصينيين شعب يسعى إلى التناغم، ومنها قصة يانغ تسي الذي أُرسل كمبعوث إلى مملكة تشو، فاستخف به أهل تشو لأنهم رأوه قصيرا بديناً وداكن البشرة. لهذا فتحوا له بوابة جانبية. وكمبعوث من مملكة تشي، التي كانت قوية آنذاك، لم يشأ يانغ تسي أن يرى في ذلك إهانة لمملكته ولم يرغب في أن يسبب تناقضاً بين المملكتين. وبحكمة سامية، قال لحارس بوابة مملكة تشو: "أنا مبعوث من مملكة تشي، وسوف أدخل من بوابة الكلاب إذا كنت قادماً إلى مملكة كلاب، ولكن إذا كنت قادماً إلى مملكة بشر فإنني لابد أن أدخل من البوابة الأمامية. لهذا اضطر حارس البوابة أن يفتح البوابة الأمامية ليدخل منها يانغ تسي والوفد المرافق له.
يتحدث الكتاب عن الحكم بالفضيلة، مشيرا إلى ما جاء في كتاب "جامع النصوص القديمة" من أن هناك تسعة مجالات في حكم الدولة، ستة منها تشمل ثلاث فضائل في إدارة المجتمع. هذه الفضائل الست هي تحديداً: الإخلاص، الصلابة والليونة، الهدوء، والعمق، والاستقامة في الإخلاص، القوة والمنعة في الصلابة، والسلاسة ولطف المعاشرة في الليونة.
ويقول الكتاب إنه في أواخر فترة الربيع والخريف، كان ملوك ممالك عديدة يشنون حروبا غير عادلة لضم شعوب وأراضي ممالك أخرى. كان كونفوشيوس مستاء كثيرا من هذا الوضع السياسي المضطرب. وقد أطرى على "الحكم بالفضيلة" بوصف شعري قال فيه: "إذا طبقت الدولة الحكم بالفضيلة فإنها مثل النجم القطبي اللامع في السماء العالية الذي تحيط به النجوم.
إن مثال "الحكم بالفضيلة" للشعب الصيني ليس تقليدا تاريخيا طويلا فحسب، وإنما أيضا أساس أخلاقي متين. والفكرة الكونفوشية القائلة "انتقاد الذات بقسوة أكثر من انتقاد الآخرين"، كمبدأ فلسفي وأخلاقي شخصي، هدفها هو إرشاد سلوك الشعب الصيني. إن مثل هذه الأخلاقيات الشخصية يمكن أن تطبق كدليل أخلاقي للفعاليات السياسية لأي بلد. الحكام، من الإمبراطور إلى ملوك كل الممالك، ثم المسؤولون في مختلف الوظائف ينبغي أن يطبقوا بإخلاص ما يدعون إليه ثم يعلمون الناس من حولهم لمحاكاة سلوكهم. هذه الفكرة الأخلاقية الشخصية يمكن أن تستخدم أيضا لتوجيه الأعمال السياسية للدولة، وفقا لقول كونفوشيوس: "إذا لم يخضع شعب الأراضي البعيدة، فعلى الحاكم أن يجذبهم بتعزيز هيبة ثقافته." إن هذا يشبه المبدأ التعليمي والتنويري الجديد للنزعة الإنسانية في المجتمع الحديث الداعي إلى تجنب إجبار الشعوب الأخرى على نسخ نمط الحياة لشعب معين، حتى وإن بدا أنه أفضل وأكثر إنسانية من أنماط حياتهم الأصلية. ولكن، ليس ثمة ما يدعو إلى حل تلك المشاكل بالقوة العسكرية.
ويتحدث الكتاب أيضا عن "الحفاظ على التناغم السامي، الذي تكون المصلحة في ظله فاضلة"، ويقول المؤلف إن عالم اليوم هو زمن العولمة الاقتصادية والثقافية. ولكن شبح الحرب النووية ليس بعيدا تماما عن الصورة. إن كيفية تطوير نمط للتنمية الاقتصادية في ظل نظرية السلام الاجتماعي تفرض تحديات أيديولوجية على فلسفة وجود وتطور الإنسان. ويقول: "الفلسفة الصينية التقليدية التي تقدر التناغم قد تنتج فكرا فلسفيا جديدا، ينبغي أن يشتمل على الجوانب الأربعة التالية:
أولاً، ينبغي على كافة دول العالم أن تطور الاقتصاد العالمي من خلال التبادلات الاقتصادية السلمية لكي تحصل على مصالحها في إطار عملية تطور العولمة الاقتصادية؛
ثانياً، من الأهمية بمكان أن يوجد نمط أمثل للتنميةالاقتصادية يتميز بالتناغم بين الإنسان والطبيعة، ويتضمن التناغم البيئي الإيكولوجي والأمان البيئي؛
ثالثاً، من الضروري أن نولي أهمية للتناغم بين الفرد والمجتمع. ينبغي أن تتضمن تنمية الاقتصاد الاجتماعي هدف تعزيز سعادة الناس بدلا من زيادةالأرباح؛
رابعاً، تناغم الظروف الذهنية والبدنية للإنسان. مع الارتقاء بالحياة المادية، ينبغي أن يكون لدى الإنسان تناغم في جسده وذهنه لتفادي الاختلالات النفسية الضخمة، وبخاصة تجنب نمط التنمية الاقتصادية الذي قد يسبب هياجا بين الجسد والعقل.
ويقول المؤلف إن كتاب "تغيرات تشو" يناقش قضيتين رئيسيتين: كيف يمكن الحفاظ على مكانة الفرد، وكيف يمكن توحيد الناس. والإجابة هي: توحيد الناس يكون بالثروة. الحفاظ على مكانة المرء يكون بالفضيلة والرحمة (المروءة). الثروة والمتاع أشياء يحبها الجميع، ولكن لا بنيغي للمرء أن يأتي بأفعال على حساب الأخلاق والفضائل. إن أي ثروة أو متاع يُكتسب بطرق منافية للأخلاق سوف يكون مآله الضياع. هذا يوضح أن شرعية كافة النشاطات الاقتصادية ينبغي أن تستند في المقام الأول إلى الأخلاق من أجل ضمان الاستقرار.
ويرى الكاتب أن النزاع حول موارد التنمية بين الأمم والدول كان السبب الرئيسي للحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين. وقد غير ظهور الأسلحة النووية من طبيعة الحرب بالنسبة للبشرية. قلل الردع النووي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية احتمال نشوب حرب عالمية أخرى بشكل كبير. بيد أن عملية النزاع حول الموارد في التكنولوجيا، التي يقف ورائها الرواد والأكفاء، تتسارع وتيرتها. ويزيد من حدة النزاع اقتصاد المعرفة واقتصاد المعلومات في مجتمع ما بعد التصنيع. ومن ثم فإن السؤال هو ما إذا كانت التنمية الاقتصادية أم الأعمال الإنسانية هي الآن الهدف الذي يحدد الأنماط المختلفة للتنمية الاقتصادية.

No comments:

Post a Comment