كتبها حسين إسماعيل ، في 8 أغسطس 2010 الساعة: 12:37 م
عاشقة الصين
حسين إسماعيل
عشق يعشق عشقا (الشيء)، أي
أحبه أشد الحب، فهو عاشق وهي عاشقة. وعشق بالشيء لصق به ولزمه. وعَشَق الشيء بآخر
أدخل أطراف أحدهما بين أطراف الآخر (المعجم الوسيط). والتعشيق (العاشق
والمعشوق) طريقة معروفة في فنون العمارة الصينية والعربية، وهي الربط بين قطعتي خشب
أو زجاج دون وسيط فتبقيان مرتبطين إلى أن تفنيا معا.
لم تقل لي همت لاشين أكثر
من أنها ستزور القاهرة، وإنها تود أن نلتقيا لتقدم لي الكتاب الذي ألفته وخرج من
المطابع قبل فترة وجيزة. كاد اللقاء يتبخر، فعندما اتصلت بها في اليوم المحدد كانت
في الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة برفقة أصدقاء من الصين، وبدا أنه من المتعذر
أن نتقابل في ذات اليوم. قلت لها لا بأس، لعل الظروف تتيح لنا اللقاء في موعد آخر،
فقالت ضاحكة: "أنا الذي أصنع الظروف"، سأحضر إلى مقر "الصين اليوم" صباح
الغد.
كانت هناك مراسلات بيننا،
هي من دبي وأنا من بكين والقاهرة. كانت تبحث عن مقالة نشرتها بمجلة "بناء الصين
(الصين اليوم حاليا)، عندما كانت طالبة تدرس اللغة الصينية في بكين في ثمانينات
القرن الماضي. كنت أتمنى أن أحقق لها رغبتها، فأنا أدرك معنى ومغزى أن يعيد إنسان
قراءة خواطر أو ملاحظات دونها قبل ثلاثة عقود. سعيت لدى الزملاء في قسم "الحفظ"
بمقر "الصين اليوم" الرئيسي في بكين، ولكن لم يتيسر العثور على المقالة
القديمة.
لم تكن فرحتها خافية عندما
جلست في باحة مقر فرع "الصين اليوم" الإقليمي للشرق الأوسط في القاهرة، وأشرق وجهها
أكثر عندما صافحت الزملاء الصينيين العاملين بالقرع الإقليمي، وحادثتهم بلسانهم.
ولم يفتها أن تبدي ملاحظة خفوت الضوء في قاعة الاستقبال، قائلة إن هذا يتعارض مع
مبادئ علم فنغشيوي الصيني. وقد لاحظتُ أنها عندما تتحدث عن الصين، تتدفق كلماتها
سلسلة عذبة متيمة بكل ما هو صيني. لم تكن هذه أول مرة أرى إعجابا وولعا بالصين،
ولكنها ربما من المرات القليلة التي رأيت فيها "عشق الصين" متوهجا وموثقا بهذه
الدقة.
أخرجت همت لاشين من
حقيبتها كتابها الذي وعدتني به، وأهدت نسخة منه لزميلتي رئيسة تحرير "الصين اليوم"
وانغ فو التي كانت حاضرة لقاءنا. طالعتُ عنوان الكتاب فقرأت "عشق الصين" ولفت
انتباهي أن لون الغلاف أحمر، سيد الألوان عند الصينيين .
في مقدمة الكتاب تقول همت
لاشين: "ثلاثون عاما في حدائق الصين، أنهل من ثمارها وأشم رحيقها وأتعرف على
عاداتها وتقاليدها لأعرف هذا الشعب العظيم، الذي كانت له إسهامات في صنع الحضارة
الإنسانية القديمة، ومازال حتى يومنا هذا يدهش الحضارة الإنسانية المعاصرة بسرعة
تطوره ونجاحه وكثرة إنجازاته وإبداعاته." وتقول أيضا: "الصينيون شعب يتكلم بالحكمة
ويعتز بتاريخه حتى يومنا هذا، لذا يحتاج إلى شكل خاص في التعامل. وهم طيبون
وصبورون، ومن خصالهم البساطة والقناعة. ولكن بعد الانفتاح الأخير على العالم، صارت
طموحاتهم لا حدود لها، فهم حرفيون مهرة وتجار بارعون ورجال أعمال طموحون. لقد غزوا
أسواق العالم في السنوات العشر الأخيرة بكل ما يحتاج إليه البشر وفي كل
المجالات."
إنها قراءة متيمة عاشقة
لأمة ولشعبها، وقد نختلف أو نتفق معها في مفردات تلك القراءة، ولكن كلمات همت لاشين
تكشف عن شغف وعشق وافتتان حقيقي بالصين وبكل ما هو صيني، ولكنها في ذات الوقت لا
تنسى وطنها مصر، البلد صاحب الحضارة العريقة، ولذا فإنها تود لو استطاعت أن تحمل
مصر على كفيها وتضعها أمام كل صيني، أو أن تأتي بالصينيين جميعا ليشاهدوا عظمة
حضارة وتاريخ وطنها. هكذا قالت لي. لم يكن الأصدقاء الصينيون العائدون برفقتها من
الإسكندرية إلى القاهرة إلا مجموعة تعرفت عليهم في المدينة الصينية"
بدبي في الإمارات، وعبروا لها عن رغبتهم في زيارة مصر فدعتهم وتكفلت بهم وكانت
المرشد لهم خلال زيارتهم لأرض الفراعنة.
بدأت حكاية همت لاشين مع
الصين والصينيين سنة تسعمائة وألف وواحد وثمانين ميلادية، عندما التحقت بقسم اللغة
الصينية في كلية الألسن بجامعة عين شمس المصرية. ولكن المحطة الفارقة في رحلتها مع
الصين، حسبما تقول في كتابها، كانت في سبتمبر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف،
عندما وصلت إلى بكين لدراسة اللغة الصينية لمدة سنة في معهد بكين للغات الأجنبية
(جامعة بكين للغات والثقافة حاليا). ومثل كل من يزور الصين، أدهشها العدد الهائل من
الدراجات في شوارع العاصمة الصينية، في وقت كان عدد الدراجات عشرات أضعاف عدد
السيارات في هذه المدينة (الوضع لم يعد كذلك حاليا).
"عشق الصين" عبارة عن سيرة
ذاتية مصورة، فكاتبته تسجل فيه كل خطوة لها في الصين بالصور؛ مع زملائها وأساتذتها
وفي الأسواق وخلال رحلتها في شانغهاي ونانجين وهانغتشو في العطلة الدراسية الشتوية،
حتى وهي برداء المستشفى عندما أجريت لها عملية استئصال الزائدة الدودية بواحدة من
مستشفيات بكين، والأجواء الجميلة التي كان يبدعها الطلاب المسلمون خلال شهر رمضان
في معهد بكين للغات. كما لم تغفل ذكر واقعة سرقة معطفها من فوق حبل الغسيل بينما
كان الجو شديد البرودة، ومن زار بكين في الشتاء يعلم جيدا ماذا يعني أن تكون بلا
معطف ثقيل.
ولكن همت تعتقد أن الشخصية
الصينية لها طبيعة خاصة، فهي تقول في إحدى صفحات "عشق الصين": "ولكن
على الرغم من قربي الشديد منهم (الصينيون)، أعترف بأن الشعب الصيني كثيرا ما يكتنفه
بعض الغموض والخوف من إظهار المشاعر. وهذه صفة تكاد تكون عامة حتى اليوم في هذا
الشعب ذي الطابع الخاص. فلا تجدهم مندفعين إلى الإفصاح عما يختلج في صدورهم من
مشاعر. ولن أذيع سرا إن قلت إنني لمحت كثيرا نظرات إعجاب من بعض الصينيين، ولكن لم
تكن لديهم الجرأة على إظهار هذا الإعجاب أو التصريح به، أو حتى
التلميح."
صارت الصين محور حياة همت
لاشين، ودخلت أرض التنين في تفاصيل حياتها الأسرية، لدرجة أن صديقة صينية لها كانت
أول من رأى ابنتها بعد ولادتها، بعد والد الطفلة. يضم الكتاب صورا كثيرة تجمع بين
أفراد من أسرتها وأصدقاء صينيين في مصر وفي الصين.
وتتحدث همت عبد اللطيف
لاشين عن مرحلة جديدة بينها وبين الصينيين، وذلك عندما انتقلت للعمل في دبي
بالإمارات العربية المتحدة، حيث تقيم وتعمل حتى الآن. تقول: "كان لدبي فضل لا يُنكر
ولا ينسى عليّ في زيادة صلتي بالصين، والعمل على توطيد جسور الصداقة بين العرب
والصينيين بوجه عام… وأخص بالذكر والشكر مهرجان دبي للتسوق ومجمع سوق التنين الذي
عملت فيه عدة سنوات منذ بداياته، وكان بالنسبة لي خبرة جديدة مع رجال الأعمال
والتجار الصينيين وفرصة عظيمة للتعرف عن قرب على الوجه التجاري وبيئة الأعمال
والاقتصاد في الصين." وترصد ذلك كله بالصور والوثائق وشهادات التقدير لدورها في
العديد من الفعاليات ذات العلاقة بالصين.
شخصيتان
صينيتان فقط أفردت لهما همت لاشين مكانا خاصا في كتابها، معلم الصين الأول
وفيلسوفها العظيم كونفوشيوس، وزعيم الصين الراحل، مؤسس الصين الجديدة ماو تسي تونغ،
الذي رحل عن الدنيا قبل وصول همت إلى الصين بسبع سنين. تنقل عن الأول حكمته: "سلح
عقلك بالعلم خير من أن تزين جسدك بالجواهر". وتنقل عن الثاني وعده: "سوف نخلق حضارة
تهتز لها الأمم من حولنا". وتقول: "ما بين كونفوشيوس قديما، وماو حديثا، قامت حضارة
الصين التي يشهد لها التاريخ. وعندما بدأتُ أنهل من معين الحكم والأمثال الصينية
على أيدي أحفاد هذين العَلَمين، شعرت حقا بأن شخصيتي بدأت منذ ذلك الوقت تستكمل
مداركها وتوسع آفاق حكمتها. ولا تغيب عن ذاكرتي المقولة التي كان الكثير من أساتذتي
وأصدقائي الصينيين يرددونها أمامي في الثمانينات، وبكل ثقة.. تذكري أننا نمشي بخطى
ثابتة للتنمية في الصين، وسنغزو العالم اقتصاديا خلال عشرين عاما، وقد صدقوا".
وتخصص الكاتبة العاشقة
للصين نصف الكتاب تقريبا للحديث عن مدن صينية لها مكانة خاصة في نفسها وعن عادات
ومناسبات صينية تأثرت بها. وتختتم كتابها، المكون من ثمانية أجزاء غير الخاتمة،
بعبارة يصفها بها الصينيون: "وجه عربي وقلب صيني" وتقول إنها سعيدة بهذا الوصف
وتشعر بالفخر والاعتزاز بأنها جسر صداقة مع أقدم وأعرق حضارة على وجه الأرض. وترى
أن هذا يشجعها على بذل كثير من الجهد لمواصلة هذا الطريق.
همت لاشين نموذج لعدد غير
قليل من عشاق الصين الذي ينتشرون في أرجاء المنطقة العربية ويمثلون لهذا البلد ثروة
هائلة، فهم سفراء فوق العادة له بوجوه لا تنتمي إلى الجنس الأصفر وبعيون ليست ضيقة
وشعر ليس فاحم السواد. همت وغيرها من عشاق الصين لا تحركهم مصالح ولا تدفعهم جهة
معينة لإبراز الوجه المشرق للصين، والدفاع عنها إذا اقتضى الأمر. إنه الاستثمار غير
المنظور، استثمارٌ عائده ليس ماديا محسوسا، ولكنه عائد لا يقدر بثمن، استثمار يحتاج
نَفَسا طويلا وصبرا جميلا، وفوق هذا وذاك، بنية أساسية أخلاقية وعلمية واجتماعية
ونفسية.
إن العرب في حاجة إلى
عشرات بل مئات وألوف من الصينيين يعشقون بلاد العرب على نفس مستوى وعشق همت لاشين
للصين. الدول العربية مطالبة بأن "تربي" وترعى سفراء لها في الصين من الصينيين،
سفراء يتحدثون بعشق وولع ومحبة عن بلاد العرب، يخبرون باقي الصينيين عن حضارة العرب
وثقافتهم وإنجازاتهم وفضائلهم ومآثرهم. ينبغي أن يكون هناك مزيد من الجسور التي
تربط بين الأمتين العربية والصينية، أن توجد منارات بين المليار وثلاثمائة مليون
صيني تنشر ضياء وبهاء الحضارة العربية التي تزخر بالكثير والكثير مما يستحق أن يفخر
به كل عربي.
همت لاشين قال:
ReplyDeleteأغسطس 10th, 2010 at 10 أغسطس 2010 3:29 م
الاستاذ حسين اسماعيل
بكل الشكر والتقدير والعرفان اكتب لك هذه الكلمات وأشكرك من كل قلبي على اهتمامك بكتابي “عشق الصين” وعلى مقالك الجميل “عاشقة الصين” الذي فاجئتني به مجلة “الصين اليوم” في عدد اغسطس 2010م
بعيداً عن شخصي وعن كتابي فانا أشكرك الشكر الجزيل على المقال الذي كان بمثابة اغنية او معزوفة جميلة تتغنى في عشق الصين.
كلماتك ترجمت المعنى الحقيقي للعشق الثقافي والتواصل الحضاري، ويسعدني ان اؤكد لك ان لحنك الجميل وعزفك الراقي بالكلمات أضاف للكتاب رونقـاً وجمالاً، كما وأن رأي استاذ كبير مثلك خبير ومتخصص في الامور الصينية ما هو الا شهادة تقدير للكتاب ولي شخصياً.
شكرا مرة اخرى على المفاجأة التي أسعدتني وأسعدت جميع اصدقائي الصينيين والعرب وتمنياتي بمزيد من التواصل والتقارب المثمر عـبر نافذة “الصين اليوم”
همت لاشـــين
عاشقة الصين